والقول الثاني : إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين، وهذا هو الحق، لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل، كان التخصيص محض التحكم، وأيضاً قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة/ فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة، كذا وكذا مشكل، إلا إذا قيل إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة، فلان بعينه.
المسألة الخامسة : هذه الآية من أقوى الدلائل أيضاً على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، لأن قوله :﴿فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ وقوله :﴿وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ﴾ قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى، وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه، والدلائل العقلية ساعدت على صحته، وهو دليل الداعي على ما لخصناه، وأيضاً أن عاقلاً لا يختار الجهل والكفر لنفسه، فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلاً كافراً، فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة، ولم يحصل ذلك، وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل، علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره.
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم.
قلنا : فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر، فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية، وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه، وهو المطلوب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٥
المسألة الأولى :"الكاف" في قوله :﴿وَكَذالِكَ﴾ يوجب التشبيه، وفيه قولان : الأول : وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها. الثاني : أنه معطوف على ماقبله، أي كما زينا للكافرين أعمالهم، كذلك جعلنا.
المسألة الثانية : الأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم، والآية على التقديم والتأخير تقديره : جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة، فإنه لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل، لأنك إذا قلت : جعلت زيداً، وسكت، لم يفد الكلام حتى تقول رئيساً أو ذليلاً أو ما أشبه ذلك، لاقتضاء الجعل مفعولين، ولأنك إذا أضفت الأكابر، فقد أضفت الصفة إلى الموصوف، وذلك لا يجوز عند البصريين.
المسألة الثالثة : صار تقدير الآية : جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ليمكروا فيها، وذلك يقتضي أنه تعالى إنما جعلهم بهذه الصفة، لأنه أراد منهم أن يمكروا بالناس، فهذا أيضاً يدل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه : بأن حمل هذه اللام على لام العاقبة. وذكر غيره أنه تعالى لما لم يمنعهم عن المكر صار شبيهاً بما إذا أراد ذلك، فجاء الكلام على سبيل التشبيه، وهذا السؤال مع جوابه قد تكرر مراراً خارجة عن الحد والحصر.
المسألة الرابعة : قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر، لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوة الجاه تحمل الإنسان على المبالغة في حفظهما، وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة من الغدر والمكر، والكذب، والغيبة، والنميمة، والإيمان الكاذبة، ولو لم يكن للمال والجاه عيب سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الصفات الذميمة من كان له مال وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خساسة المال والجاه.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ والمراد منه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى، وهي قوله :﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾ وقد ذكرنا حقيقة ذلك في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ قالت المعتزلة : لا شك أن قوله :﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ مذكور في معرض التهديد والزجر، فلو كان ما قبل هذه الآية يدل على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس، فكيف يليق بالرحيم الكريم الحكيم الحليم أن يريد منهم المكر، ويخلق فيهم المكر، ثم يهددهم عليه ويعاقبهم أشد العقاب عليه ؟
واعلم أن معارضة هذا الكلام / بالوجوه المشهورة قد ذكرناها مراراً.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٧