اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم قالوا : لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله، وهذا يدل على نهاية حسدهم، وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل، بل لنهاية الحسد. قال المفسرون : قال الوليد بن المغيرة : والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أنا أحق بها من محمد، فإني أكثر منه مالاً وولداً، فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك : أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله :﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾ فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضاً لأنه تعالى قال :﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّه ﴾ وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام. وأيضاً فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضاً، وهو قوله :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَـابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا :﴿لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّه ﴾ وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث.
وأما قوله تعالى :﴿لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّه ﴾ ففيه قولان :
القول الأول : وهو المشهور، أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة، كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، ومخدومين لا خادمين.
والقول الثاني : وهو قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس : أن المعنى، وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي. قالوا :﴿لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّه ﴾ وهو قول مشركي العرب ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا﴾ إلى قوله :﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـابًا نَّقْرَؤُه ﴾ / من الله إلى أبي جهل، وإلى فلان وفلان كتاباً على حدة، وعلى هذا التقدير : فالقوم ما طلبوا النبوة، وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. قال المحققون : والقول الأول أقوى وأولى، لأن قوله :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ لا يليق إلا بالقول الأول، ولمن ينصر القول الثاني أن يقول : إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة، فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم، لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة، وحينئذ يصلح أن يكون قوله :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ جواباً على هذا الكلام.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٧
وأما قوله :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ فالمعنى أن للرسالة موضعاً مخصوصاً لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصاً موصوفاً بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولاً وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى.