واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعضهم : النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية، فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل. وقال آخرون : بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة. وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول، لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها، فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة، فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل، ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه، ومنهم من كان التشديد غالباً عليه، وهذا النوع من البحث فيه استقصاء، ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ فيه تنبيه على دقيقة أخرى. وهي : أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر، والغل والحسد. وقوله :﴿لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّه ﴾ عين المكر والغدر والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ؟
ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيبصيبهم صَغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين، التعظيم والمنفعة، والعقاب أيضاً إنما يتم بأمرين : الإهانة والضرر. والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين، في هذه الآية، أما الإهابة فقوله :﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدُ ﴾ (الأنعام : ١٢٤) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة / محمد عليه الصلاة والسلام طلباً للعز والكرامة، فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم، فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان، وفي قوله :﴿صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ﴾ وجوه : الأول : أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة، حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه. والثاني : أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في در الدنيا، فلما كان ذلك الصغار هذا حاله، جاز أن يضاف إلى عند الله. الثالث : أن يكون المراد ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ﴾ ثم استأنف. وقال :﴿عِندَ اللَّهِ﴾ أي معدلهم ذلك، والمقصود منه التأكيد، الرابع : أن يكون المراد صغار من عند الله، وعلى هذا التقدير : فلا بد من إضمار كلمة "من" وأما بيان الضرر والعذاب، فهو قوله :﴿وَعَذَابٌ شَدِيدُ ﴾ فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد، ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٧
١٤٥
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى.
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا، فلفظها أيضاً يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة، وبيانه أن العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر، فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية، فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلاً من الكفر أو الكفر بدلاً من الإيمان، إلا إذا حصل في القلب داعية إليه، وقد بينا ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب، وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة، فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أن ظن بكون ذلك الفعل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى / تركه، وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل.
إذا ثبت هذا فنقول : يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلاإذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب، وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان. فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلاً سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا، ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فصار تقدير الآية : أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان، ومن أراد الله منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان، وقوى دواعيه إلى الكفر. ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك، ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية، وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن، فليس وراءه بيان ولا برهان. قالت المعتزلة : لنا في هذه الآية مقامان :
المقام الأول : بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم.


الصفحة التالية
Icon