المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة، ومذاهبهم الباطلة، وقوله :﴿وَكَذالِكَ﴾ عطف على قوله :﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالانْعَـامِ﴾ أي كما فعلوا ذلك، فكذلك زين لكثير منهم شركاؤهم قتل الأولاد، والمعنى : أن جعلهم لله نصيباً، وللشركاء نصيباً، نهاية في الجهل بمعرفة الخالق المنعم، وإقدامهم على قتل أولاد أنفسهم نهاية في الجهالة والضلالة، وذلك يفيد التنبيه على أن أحكام هؤلاء وأحوالهم يشاكل بعضها بعضاً في الركاكة والخساسة.
المسألة الثانية : كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفاً من الفقر أو من التزويج، / وهو المراد من هذه الآية. واختلفوا في المراد بالشركاء، فقال مجاهد : شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة، وسميت الشياطين شركاء، لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى، وأضيفت الشركاء إليهم، لأنهم اتخذوها كقوله تعالى :﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ وقال الكلبي : كان لآلهتهم سدنة وخدام، وهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله، وعلى هذا القول : الشركاء هم السدنة، سموا شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد.
المسألة الثالثة : قرأ ابن عامر وحده ﴿زُيِّنَ﴾ بضم الزاء وكسر الياء، وبضم اللام من ﴿قَتْلَ﴾ و﴿أَوْلَـادُهُمْ ﴾ بنصب الدال ﴿شُرَكَآاـاِهِمْ ﴾ بالخفض والباقون ﴿زُيِّنَ﴾ بفتح الزاي والياء ﴿قَتْلَ﴾ بفتح اللام ﴿أَوْلَـادُهُمْ ﴾ بالجر ﴿شُرَكَآؤُهُمْ﴾ بالرفع. أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، إلا أنه فصل بين المضاف، والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد، وهو مكروه في الشعر كما في قوله :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٩
فزججتها بمزجة
زج القلوص أبي مزاده
وإذا كان مستكرهاً في الشعر فكيف في القرآن الذي هو معجز في الفصاحة. قالوا : والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى في بعض المصاحف ﴿شُرَكَآاـاِهِمْ ﴾ مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء، لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. وأما القراءة المشهورة : فليس فيها إلا تقديم المفعول على الفاعل، ونظيره قوله :﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ (الأنعام : ١٥٨) وقوله :﴿وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه ﴾ (البقرة : ١٢٤) والسبب في تقديم المفعول هو أنهم يقدمون الأهم، والذي هم بشأنه أعنى وموضع التعجب ههنا إقدامهم على قتل أولادهم، فلهذا السبب حصل هذا التقدير.
ثم قال تعالى :﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ والإرداء في اللغة الإهلاك، وفي القرآن ﴿إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾ (الصافات : ٥٦) قال ابن عباس : ليردوهم في النار، واللام ههنا محمولة على لام العاقبة كما في قوله :﴿فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ (القصص : ٨) ﴿وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ (الأنعام : ١٣٧) أي ليخلطوا، لأنهم كانوا على دين إسمعيل، فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة، أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق.
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوه ﴾ قال أصحابنا : إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى. قالت المعتزلة : إنه محمول على مشيئة الإلجاء، وقد سبق ذكره مراراً ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام : ١١٢) وهذا على قانون قوله تعالى :﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ وقوله :﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ يدل على أنهم كانوا يقولون : إن الله أمرهم بقتل أولادهم، فكانوا كاذبين في ذلك القول.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٩
١٦٠
اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة، وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساماً : فأولها : إن قالوا :﴿هَـاذِه أَنْعَـامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ فقوله :﴿حِجْرٍ﴾ فعل بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وأصل الحجر المنع، وسمى العقل حجراً لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي : أي في منعه، وقرأ الحسن وقتادة ﴿حِجْرٍ﴾ بضم الحاء وعن ابن عباس ﴿حَرَجٌ﴾ وهو من الضيق، وكانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا :﴿لا يَطْعَمُهَآ إِلا مَن نَّشَآءُ﴾ يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء.
والقسم الثاني : من أنعامهم الذي قالوا فيه :﴿وَأَنْعَـامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ وهي البحائر والسوائب والحوامي، وقد مر تفسيره في سورة المائدة.
والقسم الثالث :﴿وَأَنْعَـامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، وقيل لا يحجوم عليها ولا يلبون على ظهورها.


الصفحة التالية
Icon