البحث الرابع : قال أبو حنيفة رحمه الله : العشر واجب في القليل والكثير. وقال الأكثرون إنه لا يجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية، فقال : قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـاتٍ﴾ يقتضي ثبوت حق في القليل والكثير، فإذا كان ذلك الحق هو الزكاة وجب القول بوجوب الزكاة في القليل والكثير.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٥
أما قوله تعالى :﴿وَلا تُسْرِفُوا ﴾ فاعلم أن لأهل اللغة في تفسير الإسراف قولين : الأول : قال ابن الأعرابي : السرف تجاوز ما حد لك. الثاني : قال شمر : سرف المال، ما ذهب منه من غير منفعة.
إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه أقوال : الأول : أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف، لأنه جاء في الخبر، "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها، ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فأنزل الله تعالى قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـاتٍ مَّعْرُوشَـاتٍ وَغَيْرَ﴾ أي ولا تعطوا كله. والثاني : قال سعيد بن المسيب :﴿وَلا تُسْرِفُوا ﴾ أي لا تمنعوا الصدقة/ وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد، إلا أن الأول مجاوزة في الإعطاء، والثاني : مجاوزة في المنع. الثالث : قال مقاتل : معناه : لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، وهذا أيضاً من باب المجاوزة، لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام، فقد جاوز ما حد له. الرابع : قال الزهري معناه : لا تنفقوا في معصية الله تعالى. قال مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً. ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً. وهذا المعنى أراده حاتم الطائي حين قيل له : لا خير في السرف. فقال لا سرف في الخير، وهذا على القول الثاني في معنى السرف، فإن من أنفق / في معصية الله، فقد أنفق فيما لا نفع فيه.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ والمقصود منه الزجر، لأن كل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَـارَى نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه ا قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ (المائدة : ١٨) فدل هذا على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار. وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٥
١٦٧
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية. فقال :﴿وَمِنَ الانْعَـامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :"الواو" في قوله :﴿وَمِنَ الانْعَـامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ توجب العطف على ما تقدم / من قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـاتٍ مَّعْرُوشَـاتٍ﴾ والتقدير : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش وأقربها إلى التحصيل وجهان : الأول : أن الحمولة ما تحمل الأثقال والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش. والثاني : الحمولة ـ الكبار التي تصلح للحمل، والفرش ـ الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها.
ثم قال تعالى :﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ يريد ما أحلها لكم. قالت المعتزلة : إنه تعالى أمر بأكل الرزق، ومنع من أكل الحرام، ينتج أن الرزق ليس بحرام.
ثم قال :﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ ﴾ أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية ﴿خُطُوَاتِ﴾ جمع خطوة. وهي ما بين القدمين. قال الزجاج : وفي ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ ﴾ ثلاثة أوجه : بضم الطاء وفتحها وبإسكانها، ومعناه : طرق الشيطان. أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٧
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي بين العداوة، أخرج آدم من الجنة، وهو القائل ﴿لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه ا إِلا قَلِيلا﴾ (الإسراء : ٦٢).
ثم قال تعالى :﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : في انتصاب قوله :﴿ثَمَـانِيَةٌ﴾ وجهان : الأول : قال الفراء : انتصب ثمانية بالبدل من قوله :﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ والثاني : أن يكون التقدير : كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج.


الصفحة التالية
Icon