البحث الثاني : الواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجاً، وهما زوجان بدليل قوله :﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى ﴾ (النجم : ٤٥) وبدليل قوله :﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ ثم فسرها بقوله :﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِا قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِا نَبِّـاُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾.
ثم قال :﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ يعني الذكر والأنثى، والضأن ذوات الصوف من الغنم. قال الزجاج : وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة. ويجمع الضأن أيضاً على الضئين بكسر الضاد وفتحها وقوله :﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ قرىء ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ﴾ بفتح العين/ والمعز ذوات الشعر من الغنم. ويقال للواحد : ماعز. وللجمع : معزى. فمن قرأ ﴿الْمَعْزِ﴾ بفتح العين فهو جمع ماعز، مثل خادم وخدم وطالب وطلب، وحارس وحرس. ومن قرأ بسكون العين فهو أيضاً جمع ماعز كصاحب وصحب، وتاجر وتجر، وراكب وركب. وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله :﴿قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ﴾ نصب الذكرين بقوله :/ ﴿حَرَّمَ﴾ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. قال المفسرون : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين، ذكراً وأنثى.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٧
ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراماً وإن كان حرم الأنثى، وجب أن يكون كل إناثها حراماً، وقوله :﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ ﴾ تقديره : إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث، هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية، وهو عندي بعيد جداً، لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأنواع الأربعة، أعني : الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، محصورة في الذكور والإناث، إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة، بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاماً أو سائر الاعتبارات، كما أنا إذا قلنا : أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل. فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكراً وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى، ولما لم يكن هذا الكلام لازماً علينا، فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية، ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجهاً صحيحاً فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان : أحدهما : أن يقال : إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي، ولا تعرفون شريعة شارع، فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم ؟
وثانيهما : أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل، فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة، فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة، وهي : الضأن والمعز والبقر، فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين ؟
فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى :﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّـاكُمُ اللَّهُ بِهَـاذَا ﴾ والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول ؟
وحاصل الكلام من هذه الآية : أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة ؟
ولما بين ذلك قال :﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي، لأنه هو الذي غير شريعة إسمعيل، والأقرب أن يكون هذا محمولاً على كل من فعل ذلك، لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة، / فالتخصيص تحكم محض. قال المحققون : إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد، فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق. قال القاضي : ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم، لا يليق بالله، لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح، فالذي هو أعظم منه أولى بالذم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٧


الصفحة التالية
Icon