وأما جوابهم الثالث : وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد. فنقول : ليس هذا من باب التخصيص، بل هو صريح النسخ، لأن قوله تعالى :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ﴾ مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة، وقوله في سورة البقرة :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وكذا وكذا، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة، لأن كلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعاً لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتاً في أول الشريعة بمكة، / وفي آخرها بالمدينة، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.
وأما جوابهم الرابع : فضعيف أيضاً، لأن قوله تعالى :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ﴾ يتناول كل ما كان وحياً، سواء كان ذلك الوحي قرآناً أو غيره، وأيضاً فقوله في سورة البقرة :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ يزيل هذا الاحتمال. فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام، وصحة هذا المذهب، وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيراً من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال :"ما استخبثه العرب فهو حرام" وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه، لما رآهم يأكلون الضب قال :"يعافه طبعي" ثم إن هذا الاستقذار ما صار سبباً لتحريم الضب. وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئاً، وقد يختلفون في بعض الأشياء، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم ؟
المسألة الثالثة : اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة. فأولها : الميتة، ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام :"أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" وثانيها : الدم المسفوح، والسفح الصب. يقال : سفح الدم سفحاً، وسفح هو سفوحاً إذا سال. وأنشد أبو عبيدة لكثير :
أقول ودمعي واكف عند رسمها
عليك سلام الله والدمع يسفح
قالن ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وعلى هذا التقدير : فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل، وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم. وعن القدري : يرى فيها حمرة الدم، فقال لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح. وثالثها : لحم الخنزير فإنه رجس. ورابعها : قوله :﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه ﴾ وهو منسوق على قوله :﴿إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾ فسمى ما أهل لغير الله به ـ فسقاً ـ لتوغله في باب الفسق كما يقال : فلان كرم وجود إذا كان كاملاً فيهما، ومنه قوله تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ ﴾ (الأنعام : ١٢١).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢
وأما قوله تعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة، بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم، وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة. وقوله عقيب ذلك :﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يدل على حصول الرخصة، / ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة، وهي نوعان : الأول : أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر. وفيه مباحث :
البحث الأول : قال الواحدي : في الظفر لغات ظفر بضم الفاء، وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء، وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء، وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال.
البحث الثاني : قال الواحدي : اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس : أنه الإبل فقط. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنه الإبل والنعامة، وهو قول مجاهد. وقال عبد الله بن مسلم : إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب. ثم قال :﴿كَذَالِكَ﴾ قال المفسرون. وقال : وسمى الحافر ظفراً على الاستعارة. وأقول : أماحمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين : الأول : أن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً. والثاني : أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر، وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما.
وإذا ثبت هذا فنقول : وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد، وعلى هذا التقدير : يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير، ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس.