إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى :﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ ﴾ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين : الأول : أن قوله :﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا﴾ كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة. والثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا﴾ فائدة. فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود، فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين، فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين/ وعند هذا نقول : ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى، فوجب أن لا يكون مقبولاً، وعلى هذا التقدير : يقوى قول مالك في هذه المسألة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢
النوع الثاني : من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة، قوله تعالى :﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ﴾ فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم، ثم في الآية قولان : الأول : إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع : أولها : قوله :﴿إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ﴾ قال ابن عباس : إلا ما علق بالظهر من الشحم، فإني لم أحرمه وقال قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب / من داخل بطونها، وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير : فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم، وبهذا التقدير : لو حلف لا يأكل الشحم، وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين.
والاستثناء الثاني : قوله تعالى :﴿أَوِ الْحَوَايَآ﴾ قال الواحدي : وهي المباعر والمصارين، واحدتها حاوية وحوية. قال ابن الأعرابي : هي الحوية أو الحاوية، وهي الدوارة التي في بطن الشاة. وقال ابن السكيت : يقال حاوية وحوايا، مثل رواية وروايا.
إذا عرفت هذا : فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة.
والاستثناء الثالث : قوله :﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ قالوا : إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين. وقال ابن جريج : كل شحم في القائم والجنب والرأس، وفي العينين والأذنيين. يقول : إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم، وعلى هذا التقدير : فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية.
القول الثاني : في الآية أن قوله :﴿أَوِ الْحَوَايَآ﴾ غير معطوف على المستثنى، بل على المستثنى منه والتقدير : حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا : ودخلت كلمة "أو" كدخولها في قوله تعالى :﴿وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ (الإنسان : ٢٤) والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى، فاعص هذا واعص هذا، فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِبَغْيِهِمْ ﴾ والمعنى : أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم، وهو قتلهم الأنبياء، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، ونظيره قوله تعالى :﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ (النساء : ١٦٠).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢
ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ﴾ أي في الأخبار عن بغيهم وفي الأخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم. قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم، لأن التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان. فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم.
فالجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب، ويمكن أيضاً أن يكون للجرم المتقدم، وكل واحد منهما غير مستبعد.
ثم قال تعالى :﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾ يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة، وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام﴿فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة ﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُه ﴾ أي عذابه إذا جاء الوقت ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ يعني الذين كذبوك فيما تقول. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢
١٧٦
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات، فيقولون : لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر، وحيث لم يمنعنا عنه، ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه :
فالوجه الأول : أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم : لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك، وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح، فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً.


الصفحة التالية
Icon