والوجه الثاني : أنه تعالى قال :﴿كَذَّبَ﴾ وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل. أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول، وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب. وأما القراءة بالتشديد، فلا يمكن حملها على أن القول استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب، لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة ﴿كَذَّبَ﴾ بالتخفيف، وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى، وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى، وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم، فإنه كذبه بهذا الطريق، لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى، فهذا الذي / أنا عليه من الكفر، إنما حصل بمشيئة الله تعالى، فلم يمنعني منه، فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء، وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم، فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٦
الوجه الثالث : في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى :﴿حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ﴾ وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب.
المذهب الرابع : قوله تعالى :﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ﴾ ولا شك أنه استفهام على سبيل الأنكار، وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة، وهذا يدل على فساد هذا المذهب، لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً.
الوجه الخامس : قوله تعالى :﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ مع أنه تعالى قال في سائر الآيات :﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا ﴾.
والوجه السادس : قوله تعالى :﴿وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ والخرص أقبح أنواع الكذب، وأيضاً قال تعالى :﴿قُتِلَ الْخَراَّصُونَ﴾.
والوجه السابع : قوله تعالى :﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـالِغَةُ ﴾ وتقريره : أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا : كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى، وإذا شاء الله منا ذلك، فكيف يمكننا تركه ؟
وإذا كنا عاجزين عن تركه، فكيف يأمرنا بتركه ؟
وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى ؟
فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء، فقال تعالى :﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـالِغَةُ ﴾ وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه تعالى أعطاكم عقولاً كاملة، وأفهاماً وافية، وآذاناً سامعة، وعيوناً باصرة، وأقدركم على الخير والشر، وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم، فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات، وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات، وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة، وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضاً بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة بل لله الحجة البالغة عليكم.
والوجه الثاني : أنكم تقولون : لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى، لكنه قد غلبنا الله وقهرناه، وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته، وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً، وذلك يقدح في كونه إلهاً.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٦
فأجاب تعالى عنه : بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله :﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف، فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله، فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً، كلام باطل. فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه الآية.
والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول : إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا، ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات. وأجبنا عنها بأجوبه واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة.
وإذا ثبت هذا، فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه.


الصفحة التالية
Icon