فإن قيل : فلماذا قال أهلكناها ؟
أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى :﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ﴾ (الطلاق : ٨) فرده على اللفظ. ثم قال :﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ (الأحزاب : ٢٥) فرده على المعنى دون اللفظ، ولهذا السبب قال الزجاج : ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صواباً، وقال بعضهم : لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها، ولأن على هذا التقدير يكون قوله :﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ محمولاً على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : قوله :﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ يقتضي أن يكون الإهلاك متقدماً على مجيء البأس وليس الأمر كذلك، فإنّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه : الأول : المراد بقوله :﴿أَهْلَكْنَـاهَآ ﴾ أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا. وثانيها : كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى﴾ (المائدة : ٦) وثالثها : أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال وارداً فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس. فإن قالوا : السؤال باق، لأن الفاء في قوله :﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ فاء التعقيب، وهو يوجب المغايرة. فنقول : الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام :"لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه" فالفاء في قوله فيغسل للتفسير، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه. فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير، لذلك الإهلاك، لأن الإهلاك، قد يكون بالموت المعتاد، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم، فكان ذكر البأس تفسيراً لذلك الإهلاك. الرابع : قال الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال : أعطيتني فأحسنت، وما كان الإحسان بعد الإعطاء / ولا قبله، وإنما وقعا معاً فكذا ههنا، وقوله :﴿بَيَـاتًا﴾ قال الفراء يقال : بات الرجل يبيت بيتاً، وربما قالوا بياتاً قالوا : وسمي البيت لأنه يبات فيه. قال صاحب "الكشاف" : قوله :﴿بَيَـاتًا﴾ مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله :﴿أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ﴾ فيه بحثان :
البحث الأول : أنه حال معطوفة على قوله :﴿بَيَـاتًا﴾ كأنه قيل : فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين. قال الفراء : وفيه واو مضمرة، والمعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون، إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف، ولو قيل : كان صواباً، وقال الزجاج : أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف، فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز، ولو قلت : جاءني زيد راجلاً وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
البحث الثاني : كلمة "أو" دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهاراً، وفي القيلولة قولان : قال الليث : القيلولة نومة نصف النهار. وقال الأزهري : القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل عليه : إن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول :﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ (الفرقان : ٢٤) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له، أما ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، والمقصود : أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم إمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب، فكأنه قيل : للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع، وقع دفعة من غير سبق إمارة فلا تغتروا بأحوالكم.