ثم قال تعالى :﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاـاهُمْ﴾ قال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء، ومقام الدعاء. حكى سيبويه : اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين، ودعوى المسلمين. قال ابن عباس : فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا أنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك. قال ابن الأنباري : فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإسارة وقوله :﴿إِلا أَن قَالُوا ﴾ الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعاً بكان ويكون قوله :﴿دَعْوَاـاهُمْ﴾ نصباً كقوله :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا ﴾ (النمل : ٥٦) وقوله :﴿فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ﴾ (الحشر : ١٧) وقوله :﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن﴾ (الجاثية : ٢٥) قال ويجوز أن يكون أيضاً على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعاً، وإن قالوا نصباً كقوله تعالى :﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا ﴾ (البقرة : ١٧٧) على قراءة من رفع البر، والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت، وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيداً أخوك. قال الزجاج : إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله :﴿دَعْوَاـاهُمْ﴾ في موضع / رفع أن يقول :﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاـاهُمْ﴾ فلما قال : كان دل على أن الدعوى في موضع نصب، ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى، وإن كانت رفعاً فتقول : كان دعواه باطلاً، وباطلة، والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
٢٠٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير وجه النظم وجهان :
الوجه الأول : أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ، وأمر الأمة بالقبول والمتابعة، وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا، أتبعه بنوع آخر من التهديد، وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة.
الوجه الثاني : أنه تعالى لما قال :﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاـاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ (الأعراف : ٥) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف. بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم، وبين أن هذا السؤل لا يختص بأهل العقاب. بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب.
المسألة الثانية : الذين أرسل إليهم. هم الأمة، والمرسلون هم الرسل، فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين، ونظير هذه الآية قوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الحجر : ٩٢).
ولقائل أن يقول : المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله، فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين، فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده ؟
وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية :﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ﴾ فإذا كان يقصه عليهم بعلم، فما معنى هذا السؤال.
والجواب : أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير، والمقصود منه التقريع والتوبيخ.
فإن قيل : فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة ؟
قلنا : لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة التحق التقصير بكليته بالأمة، فيتضاعف / إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار، لما ثبت أن كل التقصير كان منهم.
ثم قال تعالى :﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ﴾ والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم، وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال، ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائباً عن أحوالهم بل كان عالماً بها. وما خرج عن علمه شيء منها، وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالماً بجميع الجزئيات، حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي، والمحسن عن المسيء، فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالماً بالجزئيات، امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمراً ناهياً مثيباً معاقباً، ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالماً بجميع المعلومات.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٢
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ﴾ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول : إنه لا علم لله قول باطل.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله :﴿فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ وبين قوله :﴿فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ (الرحمن : ٣٩) وقوله :﴿وَلا يُسْـاَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (القصص : ٧٨).


الصفحة التالية
Icon