المسألة الثالثة : الباء في قوله :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ فيه وجوه : الأول : إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي، بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المآثم، ولما كانت باء القسم كانت جواب القسم ﴿مِنكُم وَمَآ﴾ بتأويل المصدر و﴿أَغْوَيْتَنِى﴾ صلتها. والثاني : أن قوله :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم، والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضاً أسعى في إغوائهم. الثالث : قال بعضهم :﴿مَآ﴾ في قوله :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ للاستفهام. كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ وفيه إشكال، وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية قليل.
المسألة الرابعة : قوله :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لا خلاف بين النحويين أن "على" محذوف والتقدير : لأقعدن لهم على صراطك المستقيم. قال الزجاج : مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن. وإلقاء كلمة "على" جائز، لأن الصراط ظرف في المعنى : فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة، في قولك آتيك غداً وفي غد.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فيه أبحاث.
البحث الأول : المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواطبة لا يفتر عنها، ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها.
والبحث الثاني : إن هذه الآية تدل على أنه كان عالماً بالدين الحق والمنهج الصحيح، لأنه قال :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق.
البحث الثالث : الآية تدل على أن إبليس كان عالماً بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال، لأنه لو لم يكن كذلك لما قال :﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ وأيضاً كان عالماً بالدين الحق، ولولا ذلك لما قال :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
وإذا ثبت هذا فكيف يمكن : أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالاً وغواية وبكونه مضاداً للدين الحق ومنافياً للصراط المستقيم. فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقاً، فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده.
واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية، فقد علم أن ضده هو الحق، فكان إنكاره إنكاراً بمحض اللسان، فكان ذلك كفر عناد، ومنهم من قال لا. بل كفره كفر جهل وقوله :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ وقوله :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يريد به في زعم الخصم، وفي اعتقاده. والله أعلم.
المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى، ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم، وكان تعالى عالماً بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سبأ : ٢٠) فثبت بهذا أن إنظار إبليس، وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع أن يمهله، وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلاً، ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة. فقال الجبائي : إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً، والدليل عليه قوله تعالى :﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ١٦٢ ـ ١٦٣) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة، فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب، فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦


الصفحة التالية
Icon