والجواب : أما قول أبي علي فضعيف، وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه، ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساوياً لحاله عند عدم هذا التذكير، وهذا التزيين والدليل عليه العرف، فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه، فإنه لا يكون حاله في / الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين. والعلم به ضروري، وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضاً لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائه في المفسدة، وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة، فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتج به ؟
والذي يقرره غاية التقرير : أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد/ ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه ألبتة، إما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات، فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة، فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً. والله أعلم بالصواب.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في ذكر هذه الجهات الأربع قولان :
القول الأول : أن كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين. والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً : أحدها :﴿ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ ألقى إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها :﴿ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ والمعنى أفترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يعني أقوى رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم، وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله :﴿بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، فهي بين أيديهم، وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها. وثالثها : وهو قول الحاكم والسدي ﴿مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني الدنيا ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآخرة، وإنما فسرنا ﴿بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ بالدنيا، لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويشاهدها، وأما الآخرة فهي تأتي بعد ذلك. ورابعها :﴿مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ في تكذيب الأنبياء والرسل الذين يكونون حاضرين ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ في تكذيب من تقدم من الأنبياء والرسل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
وأما قوله :﴿وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ ففيه وجوه : أحدها :﴿بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ﴾ في الكفر والبدعة ﴿وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ في أنواع المعاصي. وثانيها :﴿بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ﴾ في الصرف عن الحق ﴿وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ في الترغيب في الباطل. وثالثها :﴿بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ﴾ يعني أفترهم عن الحسنات ﴿وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ أقوى دواعيهم في السيئات. قال ابن الأنباري : وقول من قال، الإيمان كناية عن الحسنات / والشمائل عن السيئات. قول حسن، لأن العرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، يريد اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين. وروى أبو عبيد عن الأصمعي أنه يقال : هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة، وإذا خبثت منزلته قال : أنت عندي بالشمال، فهذا تلخيص ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الجهات الأربع. أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوهاً أخرى. أولها : وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعاً، هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية، فإحداها : القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها. وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ، وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها، وإليه الإشارة بقوله :﴿مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾.
والقوة الثانية : القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات، وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ، وإليها الإشارة بقوله :﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾.
والقوة الثالثة : الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦


الصفحة التالية
Icon