والقوة الرابعة : الغضب، وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب، فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع/ لم تقدر على إلقاء الوسوسة، فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع، وهو وجه حقيقي شريف. وثانيها : أن قوله :﴿لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه. أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة. وأما الأفعال : مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل، وإنما جعلنا قوله :﴿مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ لشبهات التشبيه، لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها، فهي حاضرة بين يديه، فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساوياً لهذا الشاهد، وإنما جعلنا قوله :﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ كناية عن التعطيل، لأن التشبيه عين التعطيل، فلما جعلنا قوله :﴿مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله :﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ كناية عن التعطيل. وأما قوله :﴿وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ﴾ فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات ﴿وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ الترغيب في فعل المنهيات. وثالثها : نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي. أما من بين يدي فيقول : لا تخف فإن الله غفور رحيم. فاقرأ ﴿وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ (طه : ٨٢) وأما من خلفي : فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر، فاقرأ ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود : ٦) وأما من قبل يميني : فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ ﴿وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (والقصص : ٨٣) وأما من قبل شمالي : فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ (سبأ : ٥٤).
والقول الثاني : في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة، والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة، ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة. وتقدير الآية : ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام" فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له : تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل، ويقسم مالك، وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل، وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
فإن قيل : فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم.
قلنا : أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية، فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن. وأما في الظاهر : فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان : الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. والله أعلم.
المسألة الثانية : أنه قال :﴿مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ فذكر هاتين الجهتين بكلمة ﴿مِنْ﴾.
ثم قال :﴿وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ فذكر هاتين الجهتين بكلمة ﴿عَنْ﴾ ولا بد في هذا الفرق من فائدة. فنقول : إذا قال القائل جلس عن يمينه، معناه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غير ملتصق به. قال تعالى :﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ (ق : ١٧) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان/ ولم يحضر في القدام والخلف ملكان، والشيطان يتباعد عن الملك، فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة ﴿عَنْ﴾ لأجل أنها تفيد البعد والمباينة، وأيضاً فقد ذكرنا أن المراد من قوله :﴿مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الخيال، والوهم، والضرر الناشىء منهما هو حصول العقائد الباطلة، وذلك هو حصول الكفر، وقوله :﴿وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ ﴾ الشهوة، والغضب، والضرر الناشىء منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية، وذلك هو المعصية، ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم، لأن عقابه دائم. أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع، فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة ﴿عَنْ﴾ تنبيهاً على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. والله أعلم بمراده.


الصفحة التالية
Icon