البحث الثالث : دلت هذه الآية على أن كشف العورة من المنكرات وإنه لم يزل مستهجناً / في الطباع مستقبحاً في العقول وقوله :﴿وَقَالَ مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ﴾ (الأعراف : ٢٠) يمكن أن يكون هذا الكلام ذكره إبليس بحيث خاطب به آدم وحواء، ويمكن أيضاً أن يكون وسوسة أوقعها في قلوبهما، والأمران مرويات إلا أن الأغلب أنه كان ذلك على سبيل المخاطبة بدليل قوله تعالى :﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ﴾ ومعنى الكلام أن إبليس قال لهما في الوسوسة : إلا أن تكون ملكين وأراد به أن تكونا بمنزلة الملائكة إن أكلتما منها أو تكونا من الخالدين إن أكلتما، فرغبهما بأن أوهمهما أن من أكلها صار كذلك وإنه تعالى إنما نهاهما عنها لكي لا يكونا بمنزلة الملائكة ولا يخلدا، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : كيف أطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة متواضعين ساجدين له معترفين بفضله. والجواب : من وجوه : الأول : أن هذا المعنى أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض. أما ملائكة السموات وسكان العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبتة لآدم، ولو كانوا سجدوا له لكان هذا التطميع فاسداً مختلاً. وثانيها : نقل الواحدي عن بعضهم أنه قال : إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أن يصير مثل الملك في البقاء، وأقول : هذا الجواب ضعيف، لأن على هذا التقدير المطلوب من الملائكة هو الخلود وحينئذ لا يبقى فرق بين قوله :﴿إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ (الأعراف : ٢٠) وبين قوله :﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ﴾ (الأعراف : ٢٠).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
والوجه الثاني : قال الواحدي : كان ابن عباس يقرأ ملكين ويقول : ما طمعا في أن يكونا ملكين لكنهما استشرفا إلى أن يكونا ملكين، وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك، ويدل على هذا قوله :﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ﴾ (طه : ٢٠) وأقول هذا الجواب أيضاً ضعيف، وبيانه من وجهين : الأول : هب أنه حصل الجواب على هذه القراءة : فهل يقول ابن عباس إن تلك القراءة المشهورة باطلة. أو لا يقول ذلك ؟
والأول باطل، لأن تلك القراءة قراءة متواترة، فكيف يمكن الطعن فيها، وأما الثاني : فعلى هذا التقدير الإشكال باق. لأن على تلك القراءة يكون بالتطميع قد وقع في أن يصير بواسطة ذلك الأكل من جملة الملائكة وحينئذ يعود السؤال.
والوجه الثاني : أنه تعالى جعل سجود الملائكة والخلق له في أن يسكن الجنة، وأن يأكل منها رغداً كيف شاء وأراد، ولا مزيد في الملك على هذه الدرجة.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النبوة.
والجواب من وجوه : الأول : أنا إذا قلنا إن هذه الواقعة كانت قبل النبوة لم يدل على ذلك / ولأن آدم حين طلب الوصول إلى درجة الملائكة ما كان من الأنبياء، وعلى هذا التقدير فزال الاستدلال. والثاني : إن بتقدير "أن" تكون هذه الواقعة وقعت في زمان النبوة فلعل آدم عليه السلام رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والشدة أو في خلقة الذات بأن يصير جوهراً نورانياً، وفي أن يصير من سكان العرش والكرسي، وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال.
السؤال الثالث : نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن في قوله : إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وفي قوله : وقاسمهما قال عمر وقلت للحسن : فهل صدقاه في ذلك. فقال الحسن معاذ الله لو صدقاه لكانا من الكافرين ووجه السؤال : إنه كيف يلزم هذا التكفير بتقدير : أن يصدقا إبليس في ذلك القول.
والجواب : ذكروا في تقرير ذلك التكفير أنه عليه السلام لو صدق إبليس في الخلود لكان ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة/ وأنه كفر. ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من ذلك التصديق حصول الكفر ؟
وبيانه من وجهني : الأول : أن لفظ الخلود محمول على طول المكث لا على الدوام، وعلى هذا الوجه يندفع ما ذكروه.
الوجه الثاني : هب أن الخلود مفسر بالدوام، إلا أنا نسلم أن اعتقاد الدوام يوجب الكفر وتقريره أن العلم بأنه تعالى هل يميت هذا المكلف أو لا يميته، علم لا يحصل إلا من دليل السمع فلعله تعالى ما بين في وقت آدم عليه السلام أنه يميت الخلق، ولما لم يوجد ذلك الدليل السمعي كان آدم عليه السلام يجوز دوام البقاء، فلهذا السبب رغب فيه، وعلى هذا التقدير : فالتكفير غير لازم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
السؤال الرابع : ثبت بما سبق أن آدم وحواء لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفيرهما، فهل يقولون إنهما صدقاه فيه قطعاً ؟
وإن لم يحصل القطع فهل يقولون إنهما ظنا أن الأمر كما قال ؟
أو ينكرون هذا الظن أيضاً.


الصفحة التالية
Icon