البحث الرابع : قوله تعالى :﴿مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ﴾ يدل على أن الإنس لا يرون الجن لأن قوله :﴿مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ﴾ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص، قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا وأرادوا، لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس، فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جنى صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص، وأيضاً فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس، فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر ؟
وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد، لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه. ويتأكد هذا بقوله :﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ﴾ (إبراهيم : ٢٢) قال مجاهد : قال إبليس اعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فقد احتج أصحابنا بهذا النص على / أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم، قال الزجاج : ويتأكد هذا النص بقوله تعالى :﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ (مريم : ٨٣) قال القاضي : معنى قوله :﴿جَعَلْنَا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن، قال ومعنى قوله :﴿أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ هو أنا خلينا بينهم وبينهم، كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل ؛ إنه أرسل عليه كلبه.
والجواب : أن القائل إذا قال : إن فلاناً جعل هذا الثوب أبيض أو أسود، لم يفهم منه أنه حكم به، بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه، فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل، لا على مجرد الحكم، وأيضاً فهب أنه تعالى حكم بذلك، لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذباً وهو محال، فالمفضي إلى المحال محال، فكون العبد قادراً على خلاف ذلك، وجب أن يكون محالاً. وأما قوله أن قوله تعالى :﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضاً، ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، ثم إن زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعضهم عن البعض. لا يقال أنه أرسل بعضهم على البعض، بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته، فكذا ههنا. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥
٢٢٦
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما، وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، والأولى أن يحكم بالتعميم، والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، واعلم أنه ليس المراد منه أن القرم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش. ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها، فإن ذلك لا يقوله عاقل. بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش، والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات، وإن الله أمرهم بها، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين. / أحدهما : أنا وجدنا عليها آباءنا. والثاني : أن الله أمرنا بها.
أما الحجة الأولى : فما ذكر الله عنها جواباً، لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة، فلو كان التقليد طريقاً حقاً للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقاً ومعلوم أنه باطل، ولما كان فساد هذا الطريق ظاهراً جلياً لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه.
وأما الحجة الثانية : وهي قولهم :﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ فقد أجاب عنه بقوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ ﴾ والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها ؟
وأقول للمعتزلة أن يحتجوا بهذه الآية على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه، ثم إنه تعالى نهى عنه لكونه مشتملاً على ذلك الوجه، لأن قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ ﴾ إشارة إلى أنه لما كان ذلك موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر الله به، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايراً لتعلق الأمر والنهب به، وذلك يفيد المطلوب.
وجوابه : يحتمل أنه لما ثبت بالاستقراء أنه تعالى لا يأمر إلا بما يكون مصلحة للعباد، ولا ينهي إلا عما يكون مفسده لهم، فقد صح هذا التعليل لهذا المعنى. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon