جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٦
ثم قال تعالى :﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : المراد منه أن يقال : إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء ؟
أما الأول : فمعلوم الفساد بالضرورة.
وأما الثاني : فباطل على قولكم، لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق، لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش، وهم كانوا ينكرون أصل النبوة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى، فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً. وإنه باطل.
البحث الثاني : نفاة القياس قالوا : الحكم المثبت بالقياس مظنون وغير معلوم، وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذم والسخرية :﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ وجواب مثبتي القياس عن أمثال هذه الدلالة قد ذكرناه مراراً. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٦
٢٢٨
اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه : عائدة إليه في ذاته، ثم أنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه، وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه، وجوابه ما سبق ذكره.
المسألة الثانية : قال عطاء، والسدي ﴿بِالْقِسْطِ ﴾ بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً. وقال ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله، والدليل عليه قوله :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ ﴾ (آل عمران : ١٨) وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله. فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء. أولها : أنه أمر بالقسط، وهو قول : لا إله إلا الله. وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له. وثانيها : أنه أمر بالصلاة وهو قوله :﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : أنه لقائل أن يقول :﴿أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ خبر وقوله :﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ﴾ أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. وجوابه التقدير : قل أمر ربي بالقسط. وقل : أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين.
البحث الثاني : في الآية قولان : أحدهما : المراد بقوله :﴿أَقِيمُوا ﴾ هو استقبال القبلة. والثاني : أن المراد هو الإخلاص، والسبب في ذكر هذين القولين، أن إقامة الوجه في العبادة قد / تكون باستقبال القبلة، وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة، والأقرب هو الأول، لأن الإخلاص مذكور من بعد، ولو حملناه على معنى الإخلاص، صار كأنه قال : وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين، وذلك لا يستقيم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٨
فإن قيل : يستقيم ذلك، إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط.
قلنا : لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً، لم يجز قصره على أحدهما، خصوصاً مع قوله :﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ فإنه يعم كل ما يسمى ديناً.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول، لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة، فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن، بل نعتبر القبلة، فكان المعنى : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس : المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم، لاأصلي إلا في مسجد قومي.
ولقائل أن يقول : حمل لفظ الآية على هذا بعيد، لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد، ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد.
وأما قوله :﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة، أمر بعده بالدعاء، والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة، وسماها دعاء، لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر/ وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع الإخلاص، ونطيره قوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : ٥) ثم قال تعالى :﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ وفيه قولان :


الصفحة التالية
Icon