المسألة الثانية : مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به، وجب أن يكون حلالاً، وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالاً، فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع، وهذا أصل معتبر في كل الشريعة، لأن كل واقعة تقع، فإما أن يكون النفع فيها خالصاً، أو راجحاً أو الضرر يكون / خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى الضرر والنفع، أو يرتفعا. أما القسمان الأخيران، وهو أن يتعادل الضرر والنفع، أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين، وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصاً، وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزائد نفعاً خالصاً، فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصاً، وإن كان الضرر خالصاً، كان تركه خالص النفع، فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً، فكان تركه نفعاً خالصاً، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة، ثم إن وجدنا نصاً خالصاً في الواقعة، قضينا في النفع بالحل، وفي الضرر بالحرمة، وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلاً تحت النص ثم قال نفاة القياس. فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس، لكان حكم ذلك القياس. إما أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام، وحينئذ يكون ضائعاً، لأن هذا النص مستقل به. وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص، فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس. قالوا : وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافياً ببيان كل أحكام الشريعة، ولا حاجة معه إلى طريق آخر، فهذا تقرير قول من يقول : القرآن واف ببيان جميع الوقائع. والله أعلم.
وأما قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة/ لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل : هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم ؟
قلنا : فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى :﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّه ا إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ (البقرة : ١٢٦) والحاصل : أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة. أما في الدنيا. فإنها تكون مكدرة مشوبة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٢
المسألة الثانية : قرأ نافع ﴿خَالِصَةٌ﴾ بالرفع والباقون بالنصب، قال الزجاج : الرفع على أنه خبر بعد خبر، كما تقول : زيد عاقل لبيب، والمعنى : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. قال أبو علي : ويجوز أن يكون قوله :﴿خَالِصَةٌ﴾ خبر المبتدأ وقوله :﴿لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ متعلقاً بخالصة. والتقدير : هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب، فعلى الحال. والمعنى : أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.
ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله :﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية، والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٢
٢٣٤
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : أسكن حمزة الياء من ﴿رَبِّى ﴾ والباقون فتحوها.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات، فحرم أولاً الفواحش، وثانياً الإثم، واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه : الأول : أن الفواحش عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية : أنه حرم الكبائر والصغائر، وطعن القاضي فيه، فقال هذا يقتضي أن يقال : الزنا، والسرقة، والكفر ليس بإثم. وهو بعيد.
القول الثاني : أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد، والإثم اسم لما يجب فيه الحد، وهذا وإن كان مغايراً للأول إلا أنه قريب منه، والسؤال فيه ما تقدم.
والقول الثالث : أن الفاحشة اسم للكبيرة، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً. والفائدة فيه : أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة. وعلى هذا القول اختيار القاضي.
والقول الرابع : أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسماً لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور، إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة. والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا :﴿إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً﴾ (النساء : ٢٢) ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك، وإذا قيل فلان فحاش : فهم أنه يشتم الناس بألفاط الوقاع، فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط.


الصفحة التالية
Icon