إذا ثبت هذا فنقول : في قوله :﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ على هذا التفسير وجهان : الأول : يريد سر الزنا، وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة، وما ظهر منها بأن يقع علانية. والثاني : أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الدخول. وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر، لأنه تعالى قال في صفة الخمر :﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ (البقرة : ٢١٩) وبهذا التقدير : فإنه يظهر الفرق بين اللفظين.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
النوع الثالث : من المحرمات قوله :﴿وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ فنقول : أما الذين قالوا : المراد بالفواحش جميع الكبائر، وبالإثم جميع الذنوب. قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم، إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيهاً على أنهما أقبح أنواع الذنوب، كما في قوله :﴿وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ﴾ (البقرة : ٩٨) وفي قوله :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ﴾ (الأحزاب : ٧) ومنك ومن نوح، وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر، قالوا : البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم. فنقول : البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً، أو مالاً، أو عرضاً، وأيضاً قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت.
فإن قيل : البغي لا يكون إلا بغير الحق، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط.
قلنا أنه مثل قوله تعالى :﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ (الإسراء : ٣٣) والمعنى : لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق، فحينئذ يخرج من أن يكون بغياً.
والنوع الرابع : من المحرمات قوله تعالى :﴿وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه سُلْطَـانًا﴾ وفيه سؤال : وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطاناً، وجوابه : المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة، ولا سلطان ممتنع، فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك، فوجب أن يكون القول به باطلاً على الإطلاق، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل.
والنوع الخامس : من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى :﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف : ٢٨) وبقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : كلمة "إنما" تفيد الحصر، فقوله :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ﴾ كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
والجواب : إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر، والإثم على مطلق الذنب دخل كل / الذنوب فيه، وإن حملنا الفاحشة على الزنا، والإثم على الخمر.
قلنا : الجنايات محصورة في خمسة أنواع : أحدها : الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنا، وهي المراد بقوله :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ وثانيها : الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله :﴿الاثْمِ﴾ وثالثها : الجنايات على الأعراض. ورابعها : الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله :﴿وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وخامسها : الجنايات على الأديان وهي من وجهين : أحدها : الطعن في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ﴾ وثانيها : القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، لا جرم جعل تعالى ذكرها جارياً مجرى ذكر الكل، فأدخل فيها كلمة "إنما" المفيدة للحصر.
السؤال الثاني : الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه، فصار تقدير الآية : إنما حرم ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة. والجواب كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه، وعلى هذا التقدير : فيسقط السؤال، والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
٢٣٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف، بين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة، والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي.
المسألة الثانية : اعلم أن الأجل، هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة، وفي هذه الآية قولان :


الصفحة التالية
Icon