ولقائل أن يقول : هذا منهم كذب، لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة، قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه، فكانوا ضالين ومضلين، وأما الأتباع والسفلة، فهم وإن كانوا ضالين، إلا أنهم ما كانوا مضلين، فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر.
وجوابه : أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أن ذلك جائز، وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله :﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣).
أما قوله :﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة، وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعاً.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، كان ذلك سبباً لوقوع الخوف الشديد في القلب.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٧
٢٤١
اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار، وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ أُوالَـا ـاـاِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ (الأعراف : ٣٦) ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله :﴿كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ ﴾ أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هى أصول الدين، فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات، والمشركون ينكرون دلائل التوحيد، ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات / ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد، فقوله :﴿كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ ﴾ يتناول الكل، ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون :﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُه فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾.
أما قوله تعالى :﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ﴿لا تُفَتَّحُ﴾ بالتاء خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة. أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى :﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (الأنعام : ٤٤) ـ ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾ (القمر : ١١) وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم.
المسألة الثانية : في قوله :﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ﴾ أقوال. قال ابن عباس : يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه ﴾ (فاطر : ١٠) ومن قوله :﴿كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ﴾ (المطففين : ١٨) وقال السدي وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المؤمنين، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل : أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٤١
والقول الثالث : أن الجنة في السماء فالمعنى : لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء. ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة.
والقول الرابع : لا تنزل عليهم البركة والخير، وهو مأخوذ من قوله :﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ (القمر : ١١) وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة أما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات، وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السموات وذلك يدل على أن السموات موضع بهجة الأرواح، وأماكن سعادتها، ومنها تنزل الخيرات والبركات، وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات، ولما كان الأمر كذلك كان قوله :﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ﴾ من أعظم أنواع الوعيد والتهديد.
أما قوله تعالى :﴿وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى :"الولوج" الدخول. والجمل مشهور، و"السم" بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين ﴿سَمِّ﴾ بالضم، وقال صاحب "الكشاف" : يروي ﴿سَمِّ﴾ بالحركات الثلاث، وكل ثقب / في البدن لطيف فهو "سم" وجمعه سموم، ومنه قيل : السم القاتل. لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و﴿الْخِيَاطِ ﴾ ما يخاط به. قال الفراء : ويقال خياط ومخيط، كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف، وقناع ومقنع، وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب. قال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon