الفرقة الرابعة : الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان : الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب/ فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان. الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول : أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٨
القيد الأول : أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه : الأول : أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً. الثاني : أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث : أجمعنا على أن الإيمان المعدي بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدي كذلك. الرابع : أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال :﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ (البقرة : ٤١) وقوله :﴿وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ﴾ (النحل : ١٠٦) ﴿كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ﴾ (المجادلة : ٢٢) ﴿وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ (الحجرات : ١٤) الخامس : أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً. السادس : أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي، قال :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ (الأنعام : ٨٢) ﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ﴾ (الحجرات : ٩) واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى :﴿الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ (البقرة : ٧٨) من ثلاثة أوجه : أحدهما : أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فدل على أنه مؤمن. وثانيها : قوله :﴿فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ﴾ (البقرة : ١٧٨) وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان، لقوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٨