إذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها. والثاني : باطل بالإجماع، والأول : لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق، والأول باطل، لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل، والثاني : أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال : إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب، وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة. والجمع بينهما محال. وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً.
والجواب : هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان. وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٤٥
٢٤٧
أعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين. وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله :﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾ دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده :﴿وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ﴾ دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار، قال ابن عباس : وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقاً ؟
والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات :
السؤال الأول : إذا كانت الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء ؟
والجواب : هذا يصح على قولنا : لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك، والتزم القاضي ذلك وقال : إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعاً من السماع.
السؤال الثاني : هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض ؟
والجواب : أن قوله :﴿وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ﴾ يفيد العموم. والجمع، إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.
السؤال الثالث : ما معنى ﴿ءَانٍ﴾ في قوله :﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا﴾.
والجواب : إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله :﴿أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ (الأعراف : ٤٣) وكذلك في قوله :﴿أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٤٧
السؤال الرابع : هلا قيل :﴿مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ﴾ (الأعراف : ٤٤) كما قيل :﴿مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا﴾.
والجواب : قوله :﴿مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا﴾ يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد، وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف. ومزيد التشريف لا ئق بحال المؤمنين، أما الكافر فهو ليس أهلاً لأن يخاطبه الله تعالى، فلهذا السبب لم يذكر الله تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم.
أما قوله تعالى :﴿قَالُوا نَعَمْ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته.
فإن قيل : لما كانوا عارفين بذاته وصفاته، وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده، وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب، فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب ؟
وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ﴾ (الشورى : ٢٥) عام في الأحوال كلها، وأيضاً فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة.
أجاب المتكلمون : بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول : إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات، فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة ؟
واعلم أن المعتزلة : الذين يقولون يجب على الله قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال. أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلاً. قالوا لله تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا، وأن لا يقبلها في الآخرة، فزال السؤال. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon