القول الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار، وهذا قول ابن عباس. وروي عنه أيضاً أنه قال : الأعراف شرف الصراط.
والقول الثاني : وهو قول الحسن وقول الزجاج : في أحد قوليه أن قوله :﴿وَعَلَى الاعْرَافِ﴾ أي وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم. فقيل للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ؟
فضرب على فخذيه ثم قال : هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض، والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم ؟
ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين : أحدهما : أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب، الثاني : أن يقال أنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب أما على التقدير الأول ففيه وجوه : أحدها : قال أبو مجلز. هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل له : يقول الله تعالى :﴿وَعَلَى الاعْرَافِ رِجَالٌ﴾ وتزعم أنهم ملائكة ؟
فقال الملائكة ذكور لا إناث.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥١
ولقائل أن يقول : الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية. وثانيها : قالوا إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزاً لهم عن سائر أهل القيامة، وإظهاراً لشرفهم، وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة، وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم. وثالثها : قالوا : إنهم هم الشهداء، لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار، ثم قال قوم : إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم، وهذا الوجه باطل، لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف / اختصاص بهذه المعرفة، لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار، ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله :﴿يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَـاـاهُمْ ﴾ هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح، وأهل الشر والكفر والفساد. وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية/ فهو تعالى يجلسهم على الأعراف، وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به، ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات، وأهل العقاب إلى الدركات.
فإن قيل : هذه الوجوه الثلاثة باطلة، لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، والملائكة والشهداء.
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار، وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة، فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم. وأما قوله :﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ فالمراد من هذا الطمع اليقين. ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء : ٨٢) وذلك الطمع كان طمع يقين، فكذا ههنا. فهذا تقرير قول من يقول أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥١


الصفحة التالية
Icon