والقول الثاني : وهو قول من يقول أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً : أحدها : أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار. ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة، وهذا قول حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما واختيار الفراء، وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول. واحتجوا على فسادّه بوجهين : الأول : أن قالوا أن قوله تعالى :﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف : ٤٣) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقاً لدخولها، وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة / ولا النار، ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق. وثانيهما : إن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة، وأهل النار، وذلك تشريف عظيم، ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالإشراف ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف.
والجواب عن الأول : أنه يحتمل أن يكون قوله :﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾ خطاب مع قوم معينين، فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك.
والجواب عن الثاني : أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام، وإنما أجلسهم عليها لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار، وهل النزاع إلا في ذلك ؟
فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة.
الوجه الثاني : من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف. قالوا : المراد من أصحاب الأعراف أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار.
واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول : لأن هؤلاء، إنما صاروا من أصحاب الأعراف لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بإجهاد، فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول. وبتقدير أن يصح ذلك الوجه. فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها.
والوجه الثالث : قال عبد الله بن الحرث : إنهم مساكين أهل الجنة.
والوجه الرابع : قال قوم أنهم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف فهذا كله شرح قول من يقول : الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار. وأما الذين يقولون الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار ؛ فهذا القول أيضاً غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة، وأهل النار. وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول، فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب. والله أعلم، ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم واختلفوا في المراد بقوله :﴿بِسِيمَـاهُمْ﴾ على وجوه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥١
فالقول الأول : وهو قول ابن عباس : أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة بياض وجهه، كما قال تعالى :﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة، وكون كل واحد منهم أغر محجلاً من آثار الوضوء، وعلامة الكفار سواد وجوههم، وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، وكون عيونهم زرقاً.
ولقائل أن يقول : إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات ؟
لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس، وذلك باطل. وأيضاً فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة، ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص، لأن هذه الأحوال أمور محسوسة، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص.
والقول الثاني : في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضاً بظهور علامات الكفر والفسق عليهم، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا، وهذا الوجه هو المختار.
أما قوله تعالى :﴿وَنَادَوْا أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها، وعند هذا تم كلام أهل الأعراف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥١


الصفحة التالية
Icon