والقول الثاني : أن معنى ننساهم كما نسوا أي نعاملهم معاملة من نسي نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا، وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم، ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون وهذه الآية لطيفة عجيبة. وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً، ثم لعباً ثانياً، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثاً، ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام :"حب الدنيا رأس كل خطيئة" وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٣
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملاً للمكلف على الحذر والاحتراز وداعياً له إلى النظر والاستدلال، بين شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال :﴿وَلَقَدْ جِئْنَـاهُم بِكِتَـابٍ﴾ وهو القرآن ﴿فَصَّلْنَـاهُ﴾ أي ميزنا بعضه عن بعض، تمييزاً يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط، فأما قوله :﴿عَلَى عِلْما ﴾ فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة، والمنافع المتزايدة، وقوله :﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ قال الزجاج :﴿هُدًى﴾ في موضع نصب أي فصلناه هادياً وذا رحمة وقوله :﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين، والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) واحتج أصحابنا بقوله :﴿فَصَّلْنَـاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ على أنه تعالى عالم بالعلم، خلافاً لما يقوله المعتزلة من أنه ليس لله علم. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٥
اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة، بين بعده حال من كذب فقال :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَه ﴾ والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع.
فإن قيل : كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم ؟
قلنا : لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا، فلهذا السبب انتظروه وأيضاً إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، وقوله :﴿إِلا تَأْوِيلَه ﴾ قال الفراء الضمير في قوله :﴿تَأْوِيلِه ﴾ للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب. والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى قوله :﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه ﴾ (آل عمران : ٧) أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله وقوله :﴿يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُه ﴾ يريد يوم القيامة، قال الزجاج : قوله :﴿يَوْمٍ﴾ نصب بقوله :﴿يَقُولُ﴾ وأما قوله :﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه، ويجوز أن يكون معنى ﴿نَسُوهُ﴾ أي تركوا العمل به والإيمان، به وهذا كما ذكرنا في قوله :﴿كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا﴾ (الأعراف : ٥١) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون :﴿قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر، والنشر، والبعث، والقيامة، والثواب، والعقاب، كل ذلك كان حقاً، وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء لأنهم شاهدوها وعاينوها، وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا :﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ والمعنى إنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين. وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلاً عن الكفر ونطيعه بدلاً عن المعصية.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٥
فإن قيل : أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس ؟
وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله :﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ﴾ (الأعراف : ٥٠) ثم بين تعالى بقوله :﴿قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ أن الذين طلبوه، لا يكون لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم.


الصفحة التالية
Icon