والسؤال السابع : أنه تعالى خلق السموات والأرض في مدة متراخية، فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة ؟
فنقول : أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه. ثم نقول :
أما السؤال الأول : فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
وأما السؤال الثالث : فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً مقدراً/ فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو وإن كان قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال، وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال، إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر، فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ (ق : ٣٨، ٣٩) بعد أن قال قبل هذا :﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق : ٣٦، ٣٧) فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشاً من مشركي العرب، إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة، كما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلاً قليلاً قال بعده :﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه، وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل. ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين :
الوجه الأول : أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر / ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم، وقادر عليم رحيم.
الوجه الثاني : أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولاً ثم يخلق السموات والأرض بعده، ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي، كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته، لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة، فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
وأما السؤال الرابع : فجوابه أن ذكر السموات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضاً على ذكر ما بينهما، والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال :﴿اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِا مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ وقال :﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِه ا وَكَفَى بِه بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرًا * الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ (الفرقان : ٥٨، ٥٩) وقال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (ق : ٣٨).
وأما السؤال الخامس : فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله :﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار.
وأما السؤال السادس : فجوابه أن قوله :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحا بِالْبَصَرِ﴾ (القمر : ٥٠) محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها، لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة/ وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة.


الصفحة التالية
Icon