المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب ﴿حَقًّا ﴾ وجوهاً : الأول : قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً، أي أخباراً حقاً، ونظيره قوله :﴿ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ حَقًّا ﴾ (النساء : ١٥١) والثاني : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً. الثالث : قال الزجاج. التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا ؟
فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول أنا مؤمن حقاً. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله، أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله/ فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان.
المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك. أما المقام الأول، فتقريره : أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل. ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان. فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط. وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك، فيه وجوه : الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله، فإذا قال أنا مؤمن، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح. فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب. روي أن أبا حنيفة رحمه الله، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك. قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٦
الشعراء : ٨٢) فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في قوله :﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى ﴾ (البقرة : ٢٦٠) وأقول : كان لقتادة أن يجيب، ويقول : إنه بعد أن قال :﴿بَلَى ﴾ قال :﴿وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى ﴾ فطلب مزيد الطمأنينة، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله. الثاني :/ أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة، وهي الخوف من الله، والإخلاص في دين الله، والتوكل على الله، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى. وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر، وهو قوله :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ﴾ هم كذا وكذا. وذكر في آخر الآية قوله :﴿ أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ وهذا أيضاً يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله. روى أن الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت ؟
فقال : الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا ؟
الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة، وذلك لا سبيل إليه، فكذا هذا. ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن. الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر، فأما عند زوال هذا المعنى، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله، أما في نفس الأمر فلا.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٦


الصفحة التالية
Icon