إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه/ وهذا المعنى محتمل. الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت، ويكون مجهولاً، والموقوف على المجهول مجهول. فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله. السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة، فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة ؛ كان وجوده كعدمه، ولم تحصل فائدة أصلاً، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى. السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع، ألا ترى أنه تعالى قال :﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّا لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾ (الفتح : ٢٧) وهو تعالى منزه عن الشك والريب. فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده، هذا المعنى، فكذا / ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان. الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك. فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني. أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله، وكذا القول في القائم والقاعد، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال. الثاني : أنه تعالى قال :﴿ أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٦
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً، وبين وصفه بكونه متحركاً، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً، وذلك الشرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فهذا يقوي عين مذهبنا. والله أعلم.
الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى :﴿لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ والمعنى : لهم مراتب بعضها أعلى من بعض.
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأول : هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية، وهي الخوف والإخلاص والتوكل. والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق. ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب، وفي تنويره بالمعارف الإلهية. ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب. كانت المعارف أيضاً لها درجات ومراتب، وذلك هو المراد من قوله :﴿لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ والثواب الحاصل في الجنة أيضاً مقدر بمقدار هذه الأحوال. فثبت أن مراتب السعادات / الروحانية قبل الموت وبعد الموت، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة، فلهذا المعنى قال :﴿لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾.
فإن قيل : أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغص عيشه. وذلك مخل بكون الثواب رزقاً كريماً ؟
والجواب : أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم.
الحكم الثالث والرابع


الصفحة التالية
Icon