القول الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته، ولم ينقل دعاء القوم، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب.
المسألة الثالثة : قوله :﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى إجابهم. وقال :﴿أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿أَنِّي مُمِدُّكُم﴾ أصله بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب، فنصب محله، وعن أبي عمرو : أنه قرأ ﴿أَنِّي مُمِدُّكُم﴾ بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٠
المسألة الثانية : قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ﴿مُرْدِفِينَ﴾ بفتح الدال والباقون بكسرها. قال الفراء :﴿مُرْدِفِينَ﴾ أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و﴿مُرْدِفِينَ﴾ أي فعل بهم ذلك، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر ؟
فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا. وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم، وروى أن رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقياً وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت. ذاك من مدد السماء، وقال آخرون : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين/ وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء / والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى ﴾ قال الفراء : الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير : ما جعل الله الأرداف إلا بشرى. وقال الزجاج : ما جعل الله المردفين إلا بشرى، وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى. قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر في العريش قاعداً يدعو، وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم من نفسه نعساً، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر وقال :"أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل" وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى، وذلك ينفي إقدامهم على القتال.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّه ﴾ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين، إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر، والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٠
٤٦٤
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج :﴿إِذِ﴾ موضعها نصب على معنى ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى ﴾ (آل عمران : ١٢٦) / في ذلك الوقت. ويجوز أيضاً أن يكون التقدير : اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة.
المسألة الثانية : في ثلاث قراآت : الأولى : قرأ نافع بضم الياء، وسكون الغين، وتخفيف الشين ﴿يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾ بالنصب. الثانية : بالألف وفتح الياء وسكون العين ﴿يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾ بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير. الثالثة : قرأ الباقون ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ بتشديد الشين وضم الياء من التغشية ﴿النُّعَاسَ﴾ بالنصب، أي يلبسكم النوم. قال الواحدي : القراءة الأولى من أغشى، والثانية من غشي، والثالثة من غشي فمن قرأ فحجته قوله :﴿الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا﴾ يعني : فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ أو ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى :﴿فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يس : ٩) وقال :﴿فَغَشَّـاـاهَا مَا غَشَّى ﴾ (النجم : ٥٤) وقال :﴿كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله.


الصفحة التالية
Icon