المسألة الثالثة : أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال :﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّه ﴾ ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع : الأول : قوله :﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن. وثانيها : أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها : قلة المسلمين وكثرة الكفار. وثانيها : الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين. وثالثها : العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
والوجه الثالث : في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.
والوجه الرابع : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.
فإن قيل : فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس ؟
قلنا : لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين.
فإن قيل : إذا قرىء ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ بالتخفيف والتشديد ونصب ﴿النُّعَاسَ﴾ فالمضير لله عز وجل / مفعول له. أما إذا قرىء ﴿يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾ فكيف يمكن جعل قوله :﴿ءَامِنَةً﴾ مفعولاً له، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل ؟
قلنا : قوله : وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى، فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى. قال صاحب "الكشاف" : وقرىء ﴿كَانَتْ ءَامِنَةً﴾ بسكون الميم، ونظير أمن أمنة، حي حياة، ونظير أمن أمنة، رحم رحمة. قال ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
النوع الثاني : من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى :﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِه وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ﴾ ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات : أحدها : زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا. وثانيها : أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه. وثالثها : أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
أما قوله :﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ﴾ ففيه وجوه : الأول : أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان. الثاني : أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام. الثالث : أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.
فإن قيل : فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى ؟


الصفحة التالية
Icon