قلنا : قوله :﴿لِّيُطَهِّرَكُم﴾ معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله :﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ﴾ على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله :﴿لِّيُطَهِّرَكُم﴾ حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله :﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ﴾ إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول : حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان/ وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى :﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (المدثر : ٥).
النوع الثالث : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى :﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى :﴿وَرَابِطُوا ﴾ (آل عمران : ٢٠٠) ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال : رجل رابط أي حابس. قال الواحدي : ويشبه أن يكون ﴿عَلَى﴾ ههنا صلة والمعنى ـ وليربط قلوبكم بالنصر ـ وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة ﴿عَلَى﴾ تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
والنوع الرابع : من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى :﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقْدَامَ﴾ وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله :﴿بِه ﴾ عائد إلى المطر. وثانيها : أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله :﴿بِه ﴾ عائد إلى الربط. وثالثها : روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله :﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقْدَامَ﴾ يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
النوع الخامس : من النعم المذكورة ههنا قوله :﴿إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ﴾ وفيه بحثان : الأول : قال الزجاج :﴿إِذِ﴾ في موضع نصب، والتقدير : وليربط على قلوبكم ويثبت به / الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا. الثاني : قوله :﴿إِنِّى مَعَكُمْ﴾ فيه وجهان : الأول : أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين. والثاني : أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون.
ثم قال :﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه : الأول : أنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلّم أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيت والثاني : أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. والثالث : أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
والنوع السادس : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله :﴿سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ وهذا من النعم الجليلة، وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.
أما قوله تعالى :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى :﴿فَثَبِّتُوا ﴾ وقيل : بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة/ واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم، وفي قوله :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ قولان : الأول : أن ما فوق العنق هو الرأس، فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد. والثاني : أن قوله :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ أي فاضربوا الأعناق.


الصفحة التالية
Icon