والجواب : أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، والأصل في الكلام الحقيقة.
فإن قالوا : الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى. فنقول : هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا، فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز. والله أعلم.
المسألة الثالثة : قرىء ﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُم وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ بتخفيف ولكن ورفع ما بعده.
المسألة الرابعة : في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال : الأول : وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر. والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء/ ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء، فكانت تلك الرمية سبباً للهزيمة، وفيه نزلت هذه الآية. والثاني : أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر. فرمى سهماً. فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو على فرسه، فنزلت ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ والثالث : أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم ؟
فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر، فلما افتدى. قال لرسول الله إن عندي فرساً أعتلفها كل يوم فرقاً من ذرة، كي أقتلك عليها. فقال صلى الله عليه وسلّم :"بل أنا أقتلك إن شاء الله" فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه. فقال عليه السلام :"استأخروا" ورماه بحربة فكسر ضلعاً من أضلاعه، فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر، وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
أما قوله تعالى :﴿وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا ﴾ فهذا معطوف على قوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ / والمراد من هذا البلاء الأنعام، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب، قال القاضي : ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء ههنا على النعمة، وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد، حتى يقال : إن الذي فعله تعالى يوم بدر، كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات.
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم، وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب، لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور، ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
٤٦٩
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿مُوهِنُ﴾ بتشديد الهاء من التوهين ﴿كَيْدِ﴾ بالنصب، وقرأ حفص عن عاصم ﴿مُوهِنُ كَيْدِ﴾ بالإضافة، والباقون ﴿مُوهِنُ﴾ بالتخفيف ﴿كَيْدِ﴾ بالنصب، ومثله قوله :﴿كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه ﴾ (الزمر : ٣٨) بالتنوين وبالإضافة.
المسألة الثانية : الكلام في ذلك ومحله من الإعراب كما في قوله :﴿ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ﴾ (الأنفال : ١٤).
المسألة الثالثة : توهين الله تعالى كيدهم. يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. قال ابن عباس ينبىء رسول الله ويقول : إني قد أوهنت كيد عدومك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم.
أما قوله تعالى :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ فيه قولان :
القول الأول : وهو قول الحسن ومجاهد والسدي أنه خطاب للكفار، روي أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، وروي أنه قال : اللهم أينا كان أقطع / للرحم وأفجر، فأهلكه الغداة، وقال السدي : إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى : إن تستفتحوا أي تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، فقد جاءكم النصر. وقال آخرون : أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.


الصفحة التالية
Icon