والسبب الثاني : قوله :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وفي تفسيره وجوه : الأول : وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون، فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال : قتل أهل المحلة رجلاً، وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد، والمراد بعضهم. الثاني : وما كان الله معذب هؤلاء الكفار، وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم. الثالث : قال قتادة والسدي :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي لو استغفروا لم يعذبوا، فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم. أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله. ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار ههنا بمعنى الإسلام والمعنى : أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا. منهم أبو سفيان بن حرب. وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعدد كثير، والمعنى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ مع أن في علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان. قال أهل المعاني : دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس : كان فيهم أمانان نبي الله / والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة، ثم قال :﴿وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل بل يوم فتح مكة، وقال ابن عباس : هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال :﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية، ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه، ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله :﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ﴾ الذين يتحرزون عن المنكرات، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام، فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا، فقتلهم الله يوم بدر، وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٠
٤٨١
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام. وقال :﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ﴾ (الأنفال : ٣٤) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية. قال صاحب "الكشاف" : المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر، والمكاء الصفير. ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه. وأما التصدية فهي التصفيق. يقال : صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه، وفي أصلها قولان : الأول : أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل. الثاني : قال أبو عبيدة : أصلها تصددة، فأبدلت الياء من الدال. ومنه قوله تعالى :﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ (الزخرف : ٥٧) أي يعجزون، وأنكر بعضهم هذا الكلام، والأزهري صحح قول أبي عبيدة. وقال : صدى أصله صدى، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء.
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون / وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته، وقال مقاتل : كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته. فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلّم. والأول أقرب لقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾.
فإن قيل : المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة ؟
قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم. الثاني : أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي. أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا. الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب، ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
ثم قال تعالى :﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي عذاب السيف يوم بدر، وقيل : يقال لهم في الآخرة :﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨١
٤٨٢


الصفحة التالية
Icon