اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية. قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم / أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، هكذا قاله صاحب "الكشاف". ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال :﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ يعني : أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ (المجادلة : ٢١) وقوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : أنه لم يقل : وإلى جهنم يحشرون، لأنه كان فيهم من أسلم، بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك.
البحث الثاني : أن ظاهر قوله :﴿إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم، لأن تقديم الخبر يفيد الحصر.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق، ثم قال :﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وفيه قولان :
القول الأول : ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى :﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ (الجن : ١٩) يعني لفرط ازدحامهم فقوله :﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى الفريق الخبيث.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٢
والقول الثاني : المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد، وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى :﴿فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم ﴾ (التوبة : ٣٥) واللام في قوله :﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ﴾ على القول الأول متعلق بقوله :﴿يُحْشَرُونَ﴾ والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلق بقوله :﴿ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ ثم قال :﴿ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ وهو إشارة إلى الذين كفروا.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٢
٤٨٣
اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية، وعباداتهم المالية، أرشدهم إلى طريق الصواب وقال :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي قل لأجلهم هذا القول، وهو :﴿إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم﴾ ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا.
المسألة الثانية : المعنى : أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول، ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وإصروا عليه فقد مضت سنة الأولين. وفيه وجوه : الأول : المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. الثاني : فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. الثالث : أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ (المجادلة : ٢١) ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ (الصافات : ١٧١) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ﴿أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ﴾ (الأنبياء : ١٠٥).
المسألة الثالثة : اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا ؟
والصحيح أنها مقبولة لوجوه : الأول : هذه الآية، فإن قوله :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ يتناول جميع أنواع الكفر.
فإن قيل : الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا ؟


الصفحة التالية
Icon