قال وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك، بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك. والثاني : أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين. قال الفراء وهذا أحسن الوجهين، أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم. وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله، إلا أن / من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة. فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين، ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين، فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة. فقال :﴿الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجهاً آخر بعيداً، فقال : التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثاً يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضاً، والحارض الذي قارب الهلاك، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي صلى الله عليه وسلّم، كانوا حارضين، أي هالكين. فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٥
ثم قال :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ ﴾ وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ﴾ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى ﴿يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ ﴾ والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه : الأول : لو كان المراد منه الخبر، لزم أن يقال : إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ومعلوم أنه باطل. الثاني : أنه قال ﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ (الأنفال : ٦٦) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر. الثالث : قوله من بعد :﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ (الأنفال : ٦٦) وذلك ترغيباً في الثبات على الجهاد، فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان وارداً بلفظ الخبر، وهو كقوله تعالى :﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ (البقرة : ٢٣٣) ﴿وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ (البقرة : ٢٢٨) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ﴾ يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قاهراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء ؛ منها : أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها : أن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان، ومنها : أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزاً إلى فئة، فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى :﴿حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
المسألة الثانية : قوله :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِا وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّا ئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة ؟
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٥
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة، وكان رسول الله يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
المسألة الثالثة : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ﴿إِن يَكُن﴾ بالتاء، وكذلك الذي بعده ﴿فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ﴾ وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما.
المسألة الرابعة : أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله :﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ وتقرير هذا الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية. ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، ومتى كان الأمر كذلك، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول.


الصفحة التالية
Icon