الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى.
الوجه الثالث : وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيباً عند الخلق، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه، بل نقول : إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيباً، وأيضاً الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت.
إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله. فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه، فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر / فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادراً وللفرد بعد الفرد. والله أعلم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٧
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أنه صلى الله عليه وسلّم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم، فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة، فابتدر عبد الله وقال : يا رسول الله صفه لي، فقال :"إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله" قال : فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل ؟
قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك ؟
ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم وذكرت أني قتلته. فأعطاني عصا وقال :"أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة" ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس : لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون، وقالوا : يا رب نحن جياع وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك، وقال الأنصار : شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله :﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ، وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ ﴾ فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر / كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين، وقوله :﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٧
فإن قالوا : قوله :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ ﴾ معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين، فليشتغلوا بجهادهم ؟
والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
فإن قالوا : قوله :﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ مشعر بأن هذا لتكليف كان متوجهاً عليهم قبل هذا التكليف.


الصفحة التالية
Icon