وأما الصفة الرابعة : فهي أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال، ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين. قال تعالى :﴿لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَا أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا ا وَكُلا﴾ (الحديد : ١٠) وقال :﴿وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (التوبة : ١٠٠) وإنما كان السبق موجباً للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال، ولهذا المعنى قال تعالى :﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ (المائدة : ٣٢) وقال عليه السلام :"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا، كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها، فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة، وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم.
وأما القسم الثاني : من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم فهم الأنصار، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة، / ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه : أولها : أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب : وثانيها : أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً، وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه، وهذه الحال ما حصلت للأنصار. وثالثها : أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار. ورابعها : أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال :"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به، فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة، فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢١
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال :﴿ أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ واختلفوا في المراد بهذه الولاية، فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم، أن المراد هو الولاية في الميراث. وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة. وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب. ويقال :"السلطان ولي من لا ولي له" ولا يفيد الإرث وقال تعالى :﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس : ٦٢) ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظماً للبعض مهتماً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبسه لنفسه، وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيداً عن دلالة اللفظ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية :﴿وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثم الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه، هذا في غاية البعد، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك/ فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد.
القسم الثالث : من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام وهم المؤمنون الذين ما وافقوا الرسول في الهجرة وبقوا في مكة وهم المعنيون بقول :﴿وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أولئك ﴾ فبين تعالى حكمهم / من وجهين : الأول : قوله :﴿مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon