البحث الرابع : اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، / وهي أربعة أشهر : شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر، وإنما سميت حرماً لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال، فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرماً، وقيل إنما سميت حرماً لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم. وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام :"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٥
وأما قوله :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه ﴾ فقيل : اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. وقيل تقديره : فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال. والمقصود : أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم. وقيل : اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه، وقوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَـافِرِينَ﴾ قال ابن عباس : بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزجاج : هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار، والخزي النكال الفاضح.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٥
٥٢٧
اعلم أن قوله :﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة : ١) جملة تامة، مخصوصة بالمشركين، وقوله :﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ﴾ جملة أخرى تامة معطوفة / على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس، لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الأذان الأعلام. قال الأزهري : يقال آذنته أوذنه إيذاناً، فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي، ومنه أذان الصلاة. وقوله :﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ﴾ أي أذان صادر من الله ورسوله، واصل إلى الناس، كقولك : إعلام صادر من فلان إلى فلان.
المسألة الثانية : اختلفوا في يوم الحج الأكبر. فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي : ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو أنه، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة. فقال : أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر. وقال ابن عباس : في رواية عطاء : يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثوري، وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها، ويقول يوم صفين، ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة. حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام :"الحج عرفة" ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة، لأن من أدركه، فقد أدرك الحج، ومن فاته فقد فاته الحج. وذلك إنما يحصل في هذا اليوم. وحجة من قال إنه يوم النحر، هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم، وهي الطواف والنحر والحلق والرمي، وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر. قال : يومك هذا، خل عن دابتي، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع. فقال هذا يوم الحج الأكبر، وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام، فبعيد لأنه يقتضي تفسي اليوم بالأيام الكثيرة، وهو خلاف الظاهر.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٧
فإن قيل : لم سمي ذلك بالحج الأكبر ؟


الصفحة التالية
Icon