قلنا فيه وجوه : الأول : أن هذا هو الحج الأكبر، لأن العمر تسمى الحج الأصغر. الثاني :/ أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر. الثالث : قال الحسن : سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر. طعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيد الكفار فيه سخط، وهذا الطعن ضعيف، لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف، وكان من وصفه بالأكبر أولئك. والرابع : سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة. والخامس : الأكبر الوقوف بعرفة، والأصغر النحر، وهو قول عطاء ومجاهد. السادس : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد، وهو منقول عن مجاهد. ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان ؟
فقال :﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه ﴾ وفيه مباحث :
البحث اللأول : لقائل أن يقول : لا فرق بين قوله :﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وبين قوله ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه ﴾ فما الفائدة في هذا التكرير ؟
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت.
والوجه الثاني : أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد، ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد، والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية : برىء منهم، والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم بعضاً، ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم، فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم، وكذلك الرسول، ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة.
والوجه الثالث : في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد. وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين، تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٧
البحث الثاني : قوله :﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ فيه حذف والتقدير :﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ بأن الله بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه.
واعلم أن في رفع قوله :﴿وَرَسُولُه ﴾ وجوهاً : الأول : أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر، والتقدير ورسوله أيضاً بريء والخبر عن الله دل على الخبر عن الرسول. والثاني : أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين. الثالث : أن قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ رفع بالابتداء وقوله :﴿بَرِى ءٌ﴾ خبره وقوله :﴿وَرَسُولُه ﴾ عطف على المبتدأ الأول. قال صاحب "الكشاف" : وقد قرىء بالنصب عطفاً على اسم أن لأن الواو بمعنى مع، أي برىء مع رسوله منهم، وقرىء بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن الله بريء من المشركين وحق رسوله.
ثم قال تعالى :﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾ أي عن الشرك ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وذلك ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون الله ورسوله موصوفين بالبراءة منه ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّه ﴾ وذلك وعيد عظيم، لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادراً على إنزال أشد العذاب بهم.
ثم قال :﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال، فقد تخلص عن العذاب، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٧
٥٢٨
هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد ؟
فيه وجهان : الأول : قال الزجاج : إنه عائد إلى قوله :﴿بَرَآءَةٌ﴾ والتقدير ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد. والثاني : قال صاحب "الكشاف"، وجهه أن يكون مستثنى من قوله :﴿فَسِيحُوا فِى الارْضِ﴾ لأن الكلام خطاب للمسلمين، والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم.


الصفحة التالية
Icon