ثم قال :﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ قال الفراء والزجاج : هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله :﴿قَـاتِلُوهُمْ﴾ لأن قوله :﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار. قالوا ونظيره :﴿فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ (الشورى : ٢٤) وتم الكلام ههنا، ثم استأنف فقال :﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ﴾ (الشورى : ٢٤) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية. الثاني : أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب، الثالث : أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام/ فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال، فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه. الرابع : قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه، فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام :﴿وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى ﴾ يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة، وإنما قال :﴿عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير، وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال :﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧
ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَلِيمُ ﴾ أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته ﴿حَكِيمٌ﴾ مصيب في أحكامه وأفعاله.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء : قوله :﴿أَمْ﴾ من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل. قال الواحدي : يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع.
المسألة الثالثة : المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين : الأول : أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه المعلوم، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده.
واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه. والثاني : قوله :﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِه وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط، بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً.


الصفحة التالية
Icon