ثم قال :﴿وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر، وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال :﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا ﴾ (فصلت : ٣٠ الأحقاف : ١٣٠) قال : ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٨
١٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها / في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة، فأولها ما ذكره في هذه الآية، وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية. وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم، ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسر العباس يوم بدر، أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ له علي. وقال : ألكم محاسن. فقال : نعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة. ونسقي الحاج. ونفك العاني، فأنزل الله تعالى رداً على العباس ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾.
المسألة الثانية : عمارة المساجد قسمان : إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال : فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه، وإما بالعمارة المعروفة في البناء، فإن كان المراد هو الثاني، كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد. وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه، وأيضاً الكافر نجس في الحكم، لقوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة : ٢٨) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى :﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ (البقرة : ١٢٥) وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات، فدخوله في المسجد تلويث للمسجد، وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين. وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين.
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ على الواحد، والباقون ﴿مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو. وقوله : عمارة المسجد الحرام. وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه : الأول : أن يراد المسجد الحرام. وإنما قيل : مساجد. لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. والثاني : أن يقال :﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ معناه : ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله، وإذا كان الأمر كذلك، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها. الثالث : قال الفراء : العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد. أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم. وأما وضع الجمع مكان الواحد. ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد. الرابع : أن المسجد موضع السجود، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢
المسألة الرابعة : قال الواحدي : ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن / مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد ثقيف في المسجد/ وهم كفار. وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر.