اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام، على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية، فقال : إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه : فأولها الإيمان، وثانيها الهجرة، وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال. ورابعها الجهاد بالنفس، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة : الروح، والبدن، والمال. أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها. وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان. ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى. فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات / الملائكة، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة ؟
فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّه وَ أولئك هُمُ الْفَآاـاِزُونَ﴾ (التوبة : ٢٠).
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦
واعلم أن قوله :﴿عِندَ اللَّهِ﴾ يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله :﴿وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه ﴾ (الأنبياء : ١٩) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية، ولذلك قال :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا﴾.
فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله :﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النمل : ٥٩) وقوله :﴿أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ (الصافات : ٦٢) الثاني : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى. الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر.


الصفحة التالية
Icon