فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير، أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن، ومن السرور إلى الغم، ومن الصحة إلى الجراحة، ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة، ويجعله راضياً بقضائه. ثم إنه تعالى يصير راضياً. وهو قوله :﴿وَرِضْوَانٍ﴾ وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله :﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية، وهي قوله :﴿وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ وقد سبق شرح هذه المراتب، ولما ذكر هذه الأحوال قال :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية، وهي قوله تعالى :﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ ولو كان الخلود يفيد التأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦
١٧
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً، وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها، كالشاق الممتنع المتعذر، فذكر الله تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة. ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً، قال المصنف رضي الله عنه : هذا مشكل، لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه ؟
والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته، وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه، قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه، فذكر الله تعالى : أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله :﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الايمَـانِ ﴾ والاستحباب طلب المحبة يقال : استحب له، بمعنى أحبه، كأنه طلب محبته. ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم، وكان لفظ النهي، يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال :﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ قال ابن عباس : يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق. قال القاضي : هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧
١٨
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى، وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله، كيف يمكن البراءة منهم بالكلية ؟
وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا وخراب ديارنا، وإبقاءنا ضائعين. فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره، أي بعقوبة عاجلة أو آجلة، والمقصود منه الوعيد.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾ أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. قال الواحدي : قوله :﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ عشيرة الرجل أهله الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالجمع والباقون على الواحد. أما من قرأ بالجمع، فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمعت قلت : عشيراتكم. ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها، ويقوي ذلك أن الأخفش قال : لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر، وقوله :﴿وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ الاقتراف الاكتساب.