واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار، وهى أمور أربعة : أولها : مخالطة الأقارب، وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج، ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل، وهي لفظ العشيرة. وثانيها : الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة. وثالثها : الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة. ورابعها : الرغبة في المساكن، ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن، فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة. ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة. ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى، فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٨
٢٠
وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن، رعاية لمصالح الدين، ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً، وضرب تعالى لهذا مثلاً، وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن، لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها، ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن.
المسألة الثانية : قال الواحدي : النصر : المعونة على العدو خاصة، والمواطن جمع موطن، وهو / كل موضع أقام به الإنسان لأمر، فعلى هذا : مواطن الحرب مقاماتها مواقفها. وامتناعها من الصرف لأنه جمع على صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله. ويقال : إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له.
ثم قال :﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍا إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم.
المسألة الثالثة : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عطاء عن ابن عباس : كانوا ستة عشر ألفاً، وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء. وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف. وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التلقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي المراد من قوله :﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعيد، لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠