ثم قال تعالى :﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا﴾ ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله :﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا﴾ أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم/ وإنما يغلبون بنصر الله، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، وقوله :﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ يقال رحب يرحب رحباً ورحابة، فقوله :﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي برحبها، ومعناه مع رحبها "فما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى : أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم. قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث. قال البراء : والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم دبره قط، قال : ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول :"أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي، وكانت بغلته شهباء، ثم قال للعباس : ناد المهاجرين والأنصار، وكان العباس رجلاً صيتاً، فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء / المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال :"شاهت الوجوه" فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى، ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله :﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة : أحدها : إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.
واعلم أن قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي، ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠
أما بيان الأول : فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم، فلا جرم لم يحصل السكون والثبات، بل فر القوم وانهزموا. ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية.
وأما بيان الثاني : وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح.
قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه ﴾ والعقل أيضاً دل عليه، وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد، لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل، وهو محال.
ثم قال تعالى :﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾ واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم، ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة، وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر، وقال سعيد بن جبير : أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة. ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر، وقال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم ؟
والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر. وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى :﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم، والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم. واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله، لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر. وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله :﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه ﴾ يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً، وفي هذه المسألة قالت المعتزلة : إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره، وقد سبق جوابه غير مرة.


الصفحة التالية
Icon