ثم قال :﴿وَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ﴾ والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين، واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله :﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا ﴾ قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه. فنقول : في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي، وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء، مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم، فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠
ثم قال الله تعالى :﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنا بَعْدِ ذَالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم. قال أصحابنا : إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام. قال القاضي : معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى، إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم، وهذا ضعيف لأن قوله تعالى :﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ﴾ ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله :﴿فَتَابَ عَلَيْه ﴾ ثم قال :﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي غفور لمن تاب، رحيم لمن آمن وعمل صالحاً. والله أعلم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠
٢٣
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة، أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله، قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة، وأجاب الله تعالى عنها بقوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ (التوبة : ٢٨) أي فقراً وحاجة ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ﴾ فهذا وجه النظم وهو حسن موافق.
المسألة الثانية : قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان. وقال قوم : بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة، والذي يفيد ههنا التمسك بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (النساء : ١١٦) ومعلوم أنه باطل.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً، ومعناه ذو نجس. وقال الليث : النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء، ورجل نجس، وقوم أنجاس، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس. واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب "الكشاف" عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل. واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام. والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه : بأن القرآن أقوى من خبر الواحد، وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين : الأول : أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله، فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى. الثاني : أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا : إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان. أما إذا قلنا : إنه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة، فوجب أن يكون هذا أولى. أما قول القاضي : لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام. فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح، وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب / يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر، فهذا تقرير هذا القول، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه : الأول : قال ابن عباس وقتادة : معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث. الثاني : المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه، الثالث : أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء.
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل.