المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم : أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس. ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة، وروى الحسن بن زياد : أنه نجس نجاسة غليظة، وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣
واعلم أن قوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ يدل على فساد هذا القول، لأن كلمة "إنما" للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس، ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة : والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا من العجائب، ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام :"المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً" فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن، ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن، والأخبار في هذا الباب، لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كانت يده رطبة. فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده. ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته، وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة، وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام، قال الله تعالى في صفة أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب : ٣٣) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار. وقال في صفة مريم :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة.
وإذا ثبت هذا فنقول : جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام / والأوزار، فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى، فما الذي حملنا على مخالفته، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية.
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة، وعند مالك : يمنعون من كل المساجد، وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد، والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله، وبمفهومها تبطل قول مالك، أو نقول الأصل عدم المنع، وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع، فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣
المسألة السادسة : اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم ؟
والأقرب هو هذا الثاني. والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ﴾ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة، وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم، وهذا استدلال حسن من الآية، ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا﴾ (الإسراء : ١) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".
واعلم أن أصحابنا قالوا : الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة، فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة، وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن.
المسألة السابعة : لا شبهة في أن المراد بقوله :﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا ﴾ السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة.
ثم قال تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ والعيلة الفقر. يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً : الأول : قال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار. والثاني : قال الحسن : جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك. وقيل : أغناهم بالفيء. الثالث : قال عكرمة : أنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم.


الصفحة التالية
Icon