ولقائل أن يقول : إن كل قول إنما يقال بالفم. فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة.
والجواب من وجوه : الأول : أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه، والحاصل أنهم قالوا باللسان قولاً، ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر، لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل، ليس عند العقل منه أثر. ونظيره قوله تعالى :﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ﴾ (آل عمران : ١٦٧) والثاني : أن الإنسان قد يختار مذهباً إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض، فإذا صرح به وذكره بلسانه، فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب، والنهاية في كونه ذاهباً إليه قائلاً به. والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة. والثالث : أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة، والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٠
ثم قال تعالى :﴿يُضَـاه ُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية وجوه : الأول : أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله. الثاني : أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم. الثالث : أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم، فهو غير مستحدث.
المسألة الثانية : المضاهاة : المشابهة. قال الفراء يقال ضاهيته ضهياً ومضاهاة، هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة. وقال شمر : المضاهاة : المتابعة، يقال : فلان يضاهي فلاناً أي يتابعه.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم بالهمزة وبكسر الهاء، والباقون بغير همزة وضم الهاء، يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت. وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة.
ثم قال تعالى :﴿قَبْلُا قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً، قاتلهم الله ما أعجب فعلهم أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير، أي قلب وصرف، ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير. فقوله تعالى :﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، حتى يجعلوا لله ولداً! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق، والله تعالى لا يتعجب من شيء، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٠
٣١
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله :﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو عبيدة : الأحبار : الفقهاء، واختلفوا في واحده، فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر. وقال الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ؟
وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر، وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني، ويحسن البيان عنها. والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون، والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع.
المسألة الثانية : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ سورة براءة، فوصل إلى هذه الآية، قال : فقلت : لسنا نعبدهم فقال :"أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه" فقلت : بلى قال :"فتلك عبادتهم" وقال الربيع : قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟
فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.