البحث الثالث : أنه قال :﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ﴾ وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه : الأول : أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع. والثاني : أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم، أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. الثالث : التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم، فأولئك الأحبار والرهبان، كانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة، ويحملونها على محامل باطلة، وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب، ويأخذون الرشوة. والرابع : أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه. فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب. ثم قالوا : ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواماً عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس، وهي بأسرها حاضرة في زماننا/ وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق.
ثم قال :﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾ لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان، وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع.
قال المصنف رضي الله عنه : غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه، فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين، فالمال هو المراد بقوله :﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ﴾ وأما الجاه فهو المراد بقوله :﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾ فإنهم لو أقروا بأن محمداً على الحق لزمهم / متابعته، وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة، وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح.
ثم قال :﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله :﴿وَالَّذِينَ﴾ احتمالات ثلاثة : لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله :﴿الَّذِينَ﴾ أولئك الأحبار والرهبان، ويحتمل أن يكون المراد كلاماً مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين، فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة، وروي عن زيد بن وهب قال : مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد ؟
فقال : كنت بالشام فقرأت ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ فقال معاوية : هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت : إنها فيهم وفينا، فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه، فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني، كأنهم لم يروني من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريباً إني والله لن أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف، قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه، وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه، فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم : فقال ما عسى أن يصنع في قريش.
قال مولانا رضي الله عنه : إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله :﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ﴾ ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله :﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين، كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم، وبين ما في تركه من الوعيد الشديد، وإن كان المراد الكل، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله. تنبيهاً على أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك / فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠


الصفحة التالية
Icon