المسألة الثانية : أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز/ يقال : هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤد زكاته، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض، وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وقال ابن عباس : في قوله :﴿وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم. قال القاضي : تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال : الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلاً في الوعيد.
والقول الثاني : أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تؤد. واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور : الأول : عموم قوله تعالى :﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه. وكذا قوله تعالى :﴿وَلا يَسْـاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ (محمد : ٣٦) وقوله عليه الصلاة والسلام :"نعم المال الصالح للرجل الصالح" وقوله عليه السلام :"كل امرىء أحق بكسبه" وقوله عليه السلام :"ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز" وإن كان ظاهراً. الثاني : أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين. الثالث : أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله، بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك. واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه : الأول : عموم هذه الآية، ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية، فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل. والثاني : ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"تباً للذهب تباً للفضة، قالها ثلاثاً، فقالوا له أي مال نتخذ ؟
قال : لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه. وقال عليه السلام :"من برك صفراء أو بيضاء كوى بها، وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار. فقال / عليه السلام :"كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام :"كيتان" والثالث : ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد، وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز. وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون. والرابع : أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ومانعاً من وصول إحسان الله إلى عبيده.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠
واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى/ أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه :
الوجه الأول : أن الإنسان إذا أحب شيئاً فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى. فالإنسان إذا كان فقيراً فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس. وأيضاً قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص، لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد. أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال :


الصفحة التالية
Icon